هوية المُدرِّس والمدرسة العمومية
ما معنى أن نقتل “الكَلْمَة” بالمعنى التام لما تُحيل إليه “الكَلْمَة” بتمغربيت المغربية، ونُجهِز على ثقة التلميذ؟
قد نصدق القول مع نجيب محفوظ في نقده لتحولات المجتمع العربي حين خلُصَ إلى: “إن آفة حارتنا هي النسيان”، أو هي آفة المشترك الذي يجمعنا عموماً، وهي آفة مجتمعنا المغربي خصوصاً في نسيان المدرسة العمومية الوطنية باعتبارها النواة الرئيسة في تشييد المجتمع المغربي. إنها كانت تمثل قيَّم “المدرسة المشتركة” في أوسع تعريفاتها الإنسانية، بمعنى مدرسة ترتبط بالأصول المغربية وفق تمفصلين: فضاءات التدريس العتيق وفضاءات التدريس الحديث.
إنه المشترك الأخلاقي الذي نادى به الباحث المهدي المنجرة في إحدى حواراته: “إن تعددية طرائق التربية المغربية تتمثل من خلال المدرسة، الحي، صاحب فرن الحي، المرافق الاجتماعية، المرافق المهنية التقليدية، ومحلات التجارة ذات الطابع التضامني (مول الحانوت) والمرافق الصحية العمومية”.
هذا يُفضي إلى امتلاك تجربة أو هي تجارب من لدن كل واحد يتقاسمها مع الآخر. إنه نظام تربوي-تعلمي انكسر وصار يتدرج في اتجاه الاضمحلال والتلاشي والزوال، ومن ثمّة نسيان مقصود أو تفريط.
إن مشكل هويتنا التعليمية ليس في القوانين المتعلقة به، التي أنهكتها مخططات التجريب والتجدد والتقليد والمحاكاة الدائمة للآخر الغربي وما تقتضيه ضرورة الالتزام بالمواثيق الدولية ذات الصبغة الإمبريالية والهيمنة في تعددية مجالاتها.
ولا يكمن في سماسرة الربح والاغتناء السريع على كاهل المواطن المغربي، والرمي به في مضاربات السوق وخوصصة قطاعات وطنية.
المشكلة الحقيقية هي أن نعرف من نحن؟ نعرف من هم أعداء البلد وأعداء “المدرسة المُشتركة” بدون تصنيفات طبقية أو إقصاء وتهميش. الجميع يحكمه دستور والجميع أبناء هذا البلد، فالجميع له حقوق وعليه واجبات.
هذه مساواة وعدالة شرعية تبتعد عن انتهازية الوساطات العدوانية، نعم، عدوانية سماسرة الفعل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
لقد نسينا أو تناسينا ماضينا وتراثنا، وأصبحت الضرورة مُلِّحة لاستعادة تربة تضاريس جغرافيتنا جيداً (شمالاً، شرقاً، جنوباً، وغرباً)، ونتذوقها برفق وعلى مهل، ونشم رائحة أرضنا، ونحاور بامتياز طقسنا الجوي والبيئي وطقوس ثقافتنا ولغاتنا الوطنية.
في المقام الأول تقتضي الضرورة استدعاء تراثنا الثقافي في علاقة بما كان يُطمِع الحاقدين في أرضنا وثرواتها من فلاحة وبحار وصناعات تقليدية.
قبل قرن ونصف كان المغاربة أكثر تحضراً من إسبانيا؛ فكتابات دولاكروا تؤكد ذلك؛ على أننا شعب له ثقافة وحضارة ومجموع قيم مشتركة في اختلاف جغرافيتنا.
هل نسينا مسيرتنا الخضراء؟ اليوم، من يُشعل مسيرة الموت وارتماء التلاميذ في مجهول محيطات الموت؟
من يُدمي اليوم قلوب أمهاتنا؟ من أحزن عقل رجالات البلد وأثقلها ألماً وحداداً؟
من طعن عمومياتنا من الخلف واستغل طيبة شعب عريق؟ ما الذي فقدناه حتى فقدنا قروناً من البناء وتشييد دولة لم تنكسر أمام حضارات، وآخرها حضارة العثمانيين التي توقفت عند البلد الجار، الجزائر؟
إننا بلد لم يكن يوماً مُهاناً أو مكسوراً. ألم نكن وقتها بلا تعليم ولا حضارة ولا ثقافة ولا تجارة؟
ماذا لو استحضرنا المدرسة المغربية في علاقة بالمُعلِّم القُدوة والتلميذ ذو الأسرة البسيطة السعيدة؟
فلنستحضر قيم المدرسة الوطنية والمقاومة لدى التلاميذ من خلال أساليب التدريس وانتفاضة التلاميذ بالقرب من المُعلم القُدوة، وتحقيق حالة فعل المظاهرات الشعبية بدءاً من زمنية 20 غشت 1955 بالمغرب.
اليوم نحن في حاجة ماسّة إلى ثقافة مشتركة وتعليم مشترك واقتصاد مشترك وفلاحة مشتركة؛ أي “المشترك المغربي”.
لقد كان لنا تعليم ينسجم مع حضارته ومؤسسات بلده، ومنفتح على مناهج التدريس المشرقية والغربية.
مكونات المشترك الأخلاقي المغربي
التلميذ وريث أرضه وخيراتها. إنه فاعل في تثمين ثرواتها، وهو وريث صناعة تعليمية وطنية حُرَّة بالمعنى التام للحرية في تمغربيتها.
لنتذكر قولة عبد الله العروي: “لقد عملت المدارس الوطنية على رفع مستوى الوعي الوطني لدى الشباب. نشرت أفكاراً سلفية معادية في نفس الوقت للسلطة الفرنسية وللمخزن الموالي لها، وكذلك لشعوذة أشياخ الزوايا. لولا نشاط المدارس الحرة لما ظهر صحفيون مغاربة شرعوا يكتبون في الصحف الوطنية كلما سمحت سلطات الحماية بإصدارها، وعند منعها في جرائد البلاد العربية الأخرى. لولا نشاطها لما تكوّن جيل من القادة الذين أطّروا مظاهرات 1935 و1937”.
نضيف على ما أسس له العروي، أنه لولا المدارس الوطنية لما تأسست لنا أحزاب وطنية لها تاريخ، أسهمت في بناء الثقة بين المواطن وأرضه ومؤسساته الشرعية.
لولا مدارسنا لما تأسست جامعات مغربية وأنتجت جيلاً أنبت بذرة المعرفة وقاوم كل الأخطار والأشباح السياسية التي تهدد حياة المواطن المغربي وعيشه وفق خصوصيات أرضه.
لولا المدرسة العمومية المشتركة والمدرِّس-القُدوة، لما شيدنا فضاءات حقوقية تروم الدفاع عن الشغيلة المغربية وحمايتها من جشع أرباب المعامل والمصانع والشركات ذات الربح الغولي.
المغربي والمغربية بالفطرة يتمثلان قيم التسامح على أرضهما ويؤسسان لحيوات جيدة، ولكنهما ما إن تحامَت عليهما العشيرة السياسية أُفرِدا إفراد الغريب في بلدهما، بتعبير طرفة بن العبد:
“إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأفردت إفراد البعير المعبّد”.
مرافق التدريس العمومية وتثمين الثروة الوطنية
لنقارن الآن وفق ملاحظة بسيطة:
مثالنا هنا هو المدرسة العمومية الوطنية. أعود إلى ربع قرن مضى وهي مدة سياسية قصيرة جداً، فنجد أن البناية المدرسية العمومية كانت توفر على الأقل ثلاثة مساكن (للمدير، الحارس العام والحارس الأمني)، بالإضافة إلى شساعة البناية وفساحة الأقسام والمقصف وقاعات التدريس، والساحات الخضراء ومساحات الرياضة.
الآن، وما عليه هذا “الآن”!
إن النظر في مدارسنا الخصوصية وفق قانون مزج عمومي/خصوصي، ماذا سنلاحظ؟
سنلاحظ أنها بالكاد يمكن أن تكون بناية لمجموع مكاتب إدارية أو شركات أو مستشفيات فرعية، وهنا استثنينا ما يُصطلح عليه مدارس العمارات ومستويات الشقق الضيقة والتكلفة الباهظة التي تنهك جيب المواطن ذو الدخل المتوسط.
هذا ريع آخر يهدد الثقة بين الطفل وأسرته وينعكس سلباً على المجتمع.
فما إن انحرفنا عن المدرسة المشتركة سُلِب التلميذ هويته وهذا سلب للاعتزاز بجذوره وأجداده، إنه سلبٌ لأرضه ومن ثم ضياعه وسط تجارب لا ولن تنتهي.
الصواب هو إن لم يتحقق التطور فعلى الأقل يجب الحفاظ على الإنسان في صورته المغربية القوية، إنه حافظ على السلام ودافع عن أسرته وعن مؤسساته الشرعية وعن أرضه ومنعها من الضياع والسلب والنهب.
فكيف له الآن أن يتم تهجيره اضطراراً وقسراً نحو مجهول عدواني لا يرحم؟
ليس صعباً العمل على تحقيق مدرسة تتحول مع المعلم والتلميذ من فضاء هندسي إلى كائن إنساني يجلب الثروة، كما هي الكثير من المدارس العمومية الأوروبية التي تتحول في أيام العطل إلى مرافق إنسانية تصنع الثروة من خلال تأجيرها للباحثين والطلبة لتقديم ساعات تدريس مواد تكميلية، أو تأجيرها لمؤسسات خارجية مثل اللقاءات والمؤتمرات والمعارض.
أو كما كان الحال في أيام العطلة الصيفية حيث كانت المدرسة العمومية تستقبل عدداً من أسرة التعليم للترفيه والسياحة والاستمتاع بالعطلة.
الهوية التعليمية المغربية هي “الكَلْمَة”
إن الفجوة بين التعليم العمومي والخصوصي تعكس تمزقات في هوية التعليم المغربي. إنها تمييز بين فئات المجتمع.
تهميش العمومي يهدد أحلام المواطن المغربي.
فالمرفق العمومي مثل البيت، وهنا يؤكد باشلار على أن “البيت يحمي أحلام اليقظة ويحمي الحالِم أيضاً، ويتيح للإنسان أن يحلم بهدوء”.
مفهوم “الكَلْمَة” افتقدناه سياسياً وحقوقياً. وجاء الفقد نتيجة فقدان الثقة من المواطن المغربي في أحزاب لم ترقَ إلى تحمل المسؤولية، وتنفيره من العمل السياسي الحقيقي.
إن “الكَلْمَة” هي التعبير السياسي الحقيقي عن فرادة المجتمع المغربي.
إنها المؤسس للوحدة والتضامن الاجتماعي والاقتصادي، وتعكس قوة العلاقات الإنسانية وتشيد الفضيلة التعليمية.
وعليه، تشيّد عظمة الإنسان المغربي في أصالته ومعاصرته، وتمتعه بالحلم والعمل في هدوء على أرضه.
The post "الكَلْمَة"… appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.