بعدما تابعنا في الجزء الأول من هذا الحوار كيف برأ محمد هاشمي، أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة محمد الخامس سابقا، سيد قطب وأبي الأعلى المودودي من “توظيف الإرهابيين بشكل انتهازي رخيص لنصوصهما”، يواصل ضيف هسبريس عمليته الفكرية التفكيكية، حيث يُخضع هذه المرة العقل الجمهوري الفرنسي لعملية “تشريح دقيقة”، أفضت إلى القول بأن “شيئا ما في روح فرنسا يشبه ما يختلج في روح الجهاديين”.
هاشمي وضح هذه النقطة معتبرا أن “كلاهما يعتقد أن لديه مهمة إنقاذ منظومة قيم هي مفتاح الخلاص. ولعل الفرق مثلا بين ألمانيا وفرنسا، على مستوى الروح الأوروبية، أن الأولى قوامها كان مرتبطا بالتقنية والتحكم في الصناعات؛ بينما الثانية تبدو دائما وهي تتجول عبر العالم كما لو أنها تحمل رسالة أخلاقية، جربها ماكرون مع بوتين فكانت الكارثة، وجربها في لبنان وهو يعانق بأبوية ضحايا الانفجار واعدا إياهم بالخلاص (…)، وجربها قبله ساركوزي وعراب الثورات صاحب استغلاليات الخشب هنري ليفي في ليبيا وفي تونس، ففتح بوابة مشرعة لتنامي الجماعات الجهادية”.
ووجد الأكاديمي سالف الذكر أن الجمهورية تعاني من جروح وانكسارات خلقت مزاجا فرنسيا مختلفا عن الكثير من العقليات الأوروبية؛ الأمر الذي جرّ فرنسا أكثر من غيرها إلى السجال الأصولي، لأن دعاة الخلاص يبحثون عن بعضهم البعض في إطار تنافس عجيب وقاتل”، مشيرا إلى أن “هذا الكلام لا يحمل أي جحود معرفي حيال وضعنا الفرنكوفوني؛ فقد كانت فرنسا دائما مصدرا مهما للرؤى والمعارف، لكن هذا لا يمنع من أن نسجل تحفظنا وتحررنا من هذه المركزية المتضخمة للعقل الجمهوري”.
نص الحوار:
اعتبرت أن الفكر الفرنسي اعتمد ميكانيزمات أصولية غير معترف بها وهو “يحارب” الأصولية الإسلامية، وجدتَ أنها تتمثل في الطابع المذهبي للعقل الجمهوري والنزعة الخصامية للعلمانية الفرنسية التي تحمل في طياتها هواجس دينية، تبرر المواجهة والحروب الممكنة مع كل كافر بمبادئ الجمهورية.. هل يمكنك أن تشخص هذا المنزع الأصولي؟
على الأقل، يمكن القول إن قابلية العقل الجمهوري الفرنسي للسجال الأصولي هي الأكثر حدة مقارنة ببلدان أوروبية أخرى تماهت بشكل أكبر مع التصورات الليبرالية والديمقراطية الدستورية القائمة على فكرة القبول اللامشروط بتعددية مشاريع الحياة داخل المجتمع وبأسبقية حُرمة الحريات الفردية على باقي أنساق الحريات، أو إن شئنا القول تغليب حريات المحدثين على حريات القدامى كما سبق يوما لطوكفيل أن فصل القول والتمييز. لقد كان الفكر الفرنسي دائما الأكثر ميلا إلى مقاربة النقاش العمومي من خلال وجهة نظر ثوابت قيمية تمثلها الدولة باعتبارها حامية الإرث الأنواري ضد أعدائه، أي ضد أعداء الثورة كما جرت العادة على تسمية كل ناقد للثورة؛ لأن فرنسا كانت دائما ربيبة الكنيسة، وملوكها كانوا يدعون بملوك المسيحية. وقد اضطلعوا، عبر التاريخ، بمهمة حماية بيضة الدين ضد أعدائه؛ فقاد شارلمان حربا حضارية ودينية كبرى سواء ضد الوثنيين الأوروبيين، أو ضد السراسان. هؤلاء الشيطانيون الذين جاؤوا ليعكروا صفاء روحانية أرض المسيحية المقدسة، وهي المواجهة التي ستخلد من خلال أحد أعرق نصوص الأدب الفرنسي “أغنية رولان”.
إن فكرة البطولة والفداء والإنقاذ والاستشهاد ونزول الملائكة لحمل الأرواح الفروسية إلى السماء، واللحى البيضاء واجتماعات ما بعد صلاة الفجر، والسيوف التي تقسم بضرباتها القاصمة الكفار وأحصنتهم إلى نصفين، والمفاخرة بالتنكيل بالكفرة وغيرها من أدبيات الحروب المقدسة والفداء كلها جزء من هذه الملحمة التي جرت العادة على ترتيل مشهدها الأخير في الكثير من الكنائس الفرنسية، وكذلك اشتغلت عليها السينما الفرنسية مرارا وتكرارا. ما يهم في هذا السياق هو البنية السردية للحكي الفرنسي وهو يسطر لنفسه مهمة حماية العالم المتحضر من أعداء الحضارة، التي ستظل مستمرة في التفاصيل الصغيرة للثورة الفرنسية التي أعلنت مدينة الإنسان وحقوقه الكونية، والتي شارك في صياغة إعلانها الشهير الكثير من القساوسة. ولا يمكن أن نتغاضى عن الأصول المسيحية القديمة لثالوث الجمهورية المتمثل في الحرية والمساواة والأخوة.
هذا التأويل المسيحي المرتبط بالنسخة الأولى للمسيح السابقة عن الكنيسة الرومانية هو أمر مشهور في الكثير من الدراسات. مؤخرا، حينما نشر جيرارد دارمانان، وزير الداخلية، كتابه/ البيان حول “الانفصالية” ركز على خصوصية فرنسا أوروبيا في كونها تملك تصورا عموميا للخير. وهذا في الواقع ما يجعل النزعات الجماعاتية الطبيعية في سياقات ثقافية، من قبيل كندا وبريطانيا وأمريكا، تتحول داخل السياق الفرنسي إلى شبهة وإلى خطر؛ مما يجعل عبارة الاندماج تأخذ في الخطاب اليميني منذ ساركوزي صورة إخضاعية، أو على الأقل تميل إلى التعامل مع الخصوصيات الثقافية كزوائد مزعجة، تكمن التربية المدنية للوافدين المهاجرين في تشذيبها وتهذيبها.
لكن، ألا ترى أن “هناك طبيعة تربوية نابوليونية لا تزال كامنة في روح المؤسسات الفرنسية التي هي في جزء منها صنيعة لهذا الرجل الذي زاوج بين مُثل العقل الجمهوري للثورة والإرث الإمبراطوري لملوك فرنسا”، كما تقول؟
بالفعل، ولهذا ما فتئ ينشر بقوة المدفع القيم الفرنسية عبر العالم، وهو يحمل وعده بالأنوار والسعادة Donnez-moi votre confiance, et vous serez bientôt heureux. هكذا ختم رسالته إلى المصريين أثناء حملته الشهيرة. إن فرنسا تعدنا بالسعادة إذا ما وثقنا بها، وتَوقفنا على أن نكون برابرة وظلاميين لم يصلهم بعد نور الأنوار، ودين العقل إلى غير ذلك من الشعارات. ولعل من أهم المؤسسات النابوليونية التي لا تزال تعمل مفعولها في كل ما ينتمي إلى الثقافة الفرنسية هي المدرسة العمومية بمختلف أطوارها، والتي كانت الاختراع الأشهر لتنزيل رؤية الإمبراطور/الجمهوري بونابارت. إن هذه المؤسسة قدمت تحديثا عنيفا على المستوى الرمزي في الكثير من المستعمرات؛ فقد كان حضورها إيذانا بنسف المدارس التقليدية، على المستويين الاجتماعي والمعرفي. وبهذا، أصبح التلاميذ الذين كانوا يُدَرسون النص المدرسي الشهير “Nos ancêtres les Gaulois” ، عبر مدارس المستعمرات، يغذون تلك الدونية المحمودة بمنطق العقل الجمهوري التي تميز بين الفرنفكوني الذي جرى تحضيره وإخراجه من بربريته الأصيلة وبين الفرنسي الأصيل النموذجي الذي يزرع أنواره ووصايته الأبوية عبر الهمج. وهو ما انفضح بشكل سمج مؤخرا عبر زيارات ماكرون إلى المستعمرات القديمة، وهذه العلاقة المفارقة بين المركزية الأوروبية والفرنسية خصوصا وبين هامشية ثقافة المستعمرات التي أعيد ترتيبها وتوضيبها لتناسب الخطاطة السردية والتأويلية للسيد الأوروبي هي ما غذى في ثقافتنا أيضا ذلك الاستلاب التهريجي الذي نتابعه من خلال كل أولئك الذين يلعبون دور المركز غير المركزي. وهذه معضلة عميقة؛ فهم يحاولون نشر البشرى المنهجية الفرنكوفونية كقَدَرٍ سعيد ينبغي القبول به، حتى أصبحنا نرى أحزابا سياسية تحمل نفس أسماء الأحزاب الفرنسية، وأحيانا نفس الحماقات، وتستعيد خطابا مركزيا، مهما بذلنا من جهد لا يمكنه أن يتعامل معنا إلا كهامش.
لنستحضر محاضرة رينان الشهيرة “Qu’est-ce qu’une nation?” حيث أسس لمفهوم الوطن الفرنسي كجماعة روحية لها إرث مشترك (Un héritage de gloire et de regrets à partager)، وتغذي رغبة جماعية في حماية وطنيتها من الشوائب عبر حماية توافقها في العيش معا في إطار مشروعها العام، وهذا ما أنيط بالدولة لأجل تنزيله. لقد حرر رينان الهوية الوطنية الفرنسية من العنصر العرقي والديني والجغرافي؛ لكنه رهنها بالماضي المشترك. والحال أن الماضي الفرنسي ليس هو ماضينا نحن؛ تلك الزوائد اللاحقة الذين أخذنا أسماء عديدة في القاموس الفرنسي: Sarrasins أو turc حسب الأنواريين والتي استخلصت منها عبارة “tête de turc” بكل دلالاتها المهينة، أو السكان المحليون “les indigènes” أو ربما حتى المتوحشون الأخيار، تشهد على هذا الماضي وتاريخه الاستعماري، وعلى روحانيته الأنوارية الثورية.
إن هذه المكونات الروحية لفرنسا ستتجلى أيضا في تيارتها الاشتراكية، التي لا تزال ترفع من حين إلى آخر شعار دعم للمستضعفين، أو مهاجري المستعمرات القديمة، حينما تتاح لها فرصة لكي تعود إلى الواجهة بعد بوار سوقها في أوروبا عامة، وفي فرنسا على وجه الخصوص، وهي لأجل استعادة بريقها الذي أصبح باهتا تنخرط في خطاب الخلاص العام الذي يجعلها تضع يدها مباشرة في يد ممثلي الإسلام السياسي، بل وأحيانا تتحفظ عن إدانة الأعمال الإرهابية الصريحة.
لماذا تقوم بذلك من وجهة نظرك؟
لأن كل هذه التيارات تتقاطع وتتشارك في نظرية معينة للخلاص ولمدينة مثالية، أي الدولة المساواتية بالنسبة لليسار، ودولة الخلافة بالنسبة لتيار الإسلام السياسي حسب درجاته؛ لكن اليمين في المقابل يوقظ عبارات ضاربة في القدم، تستعيد بلاغة أنشودة رولان، كان آخرها إنشاء حزب “Reconquête” بكل ما يحمل من دلالات صليبية. شيء ما، إذن، في روح فرنسا يشبه ما يختلج في روح الجهاديين؛ فكلاهما يعتقد أن لديه مهمة إنقاذ منظومة قيم هي مفتاح الخلاص. ولعل الفرق مثلا بين ألمانيا وفرنسا، على مستوى الروح الأوروبية، هو أن الأولى قوامها كان مرتبطا بالتقنية والتحكم في الصناعات؛ بينما الثانية تبدو دائما وهي تتجول عبر العالم كما لو أنها تحمل رسالة أخلاقية، جربها ماكرون مع بوتين فكانت الكارثة، وجربها في لبنان وهو يعانق بأبوية ضحايا الانفجار واعدا إياهم بالخلاص الذي يأتي ولا يأتي، وجربها قبله ساركوزي وعراب الثورات صاحب استغلاليات الخشب هنري ليفي في ليبيا وفي تونس، ففتح بوابة مشرعة لتنامي الجماعات الجهادية.
الأمر نفسه في دول الساحل حيث لعبت قوات بارخان دورا معكوسا ومحفزا لتنامي الجهاديين. ومرد ذلك في رأيي إلى أن عقيدة الخلاص تستفز في الغالب العقائد المنافسة لها؛ وثقافة فرنسا قائمة على هذه العقيدة، اللهم تلك الأسماء التي تمارس نقدا قاسيا على العوائد الفكرية المركزية داخل هذه الثقافة، وهي قائمة طويلة من مفكرين لا يحظون في العادة بالكثير من الدعم الرسمي للدولة. وأستحضر اسمين كبيرين رغم اختلاف عياريهما واختصاصيهما؛ فهما يمثلان في ظني تيارا متميزا في الفكر الفرنسي: الفيلسوف ألان باديو الذي فضح هذه النزعة الأبوية لفرنسا في مناسبات عديدة، على رأسها كتابه (De quoi Sarkozy est-il le nom ?) ؛ وألوفيي غوا Olivier roy الذي ما فتئ يحاول أن يجعل الفرنسيين يميزون، بعيدا عن المسبقات التي يروج لها أمثال كيبل ولاكروا، ما بين عملية أسلمة الراديكالية التي هي نتاج للسياق الثقافي والاجتماعي الأوروبي والفرنسي خصوصا. وبالتالي، فهي ظاهرة لاحقة وليست أصلا في الراديكالية الجهادية في صورتها الفرنسية أو البلجيكية حسب التوجه الذي يعتبر أن السلفية كانت مسؤولة عن ردكلة الإسلام السياسي. في الحالة الأولى يمكن القول إن الراديكالية هي نتاج ذاتي للسياسة الفرنسية، بينما في الحالة الثانية يتم إسقاط ظاهرة التطرف على الإسلام ذاته. ومن هنا، التوجه نحو تنوير الإسلام، أو بناء نموذج إسلام فرنسي مناسب للعقل الجمهوري. في هذه الحال تتصرف فرنسا بنفس منطق أنشودة رولان، في رهانها على إيقاف الخطر الوارد من خلف الصحراء العربية. ومن ثم، لا بد من أبطال فرنسيين يتصدون للغزو الإسلامي الذي حسب هذا التوجه يجري هذه المرة من خلال موجة الهجرة، التي تُعزل للأسف تماما عن حقيقة دواعيها التاريخية والاقتصادية والديمغرافية، وليس عبر الجيوش الزاحفة التقليدية. وفي هذه الحالة، طبعا، تشتغل آلية كبش الفداء بشكل شبه مدرسي، وتتناسل المفاهيم الإقصائية المتعالية؛ من قبيل processus de décivilisation، وهي العبارة التي يمكن أن نؤديها بشكل دقيق من خلال مفردة “التهميج” التي هي مقابل التحضير.
هل يمكنك أن توضح هذه الفكرة؟
أقصد أن التاريخ الاستعماري يُفهم هنا كرحلة تحضير (من الحضارة) طويلة، والهجرة كردة فعل جحودة من لدن سكان المستعمرات الذين يسعون إلى تبديد ذلك التراث التحديثي المجيد، وإلى التشويش على الفخامة الحضارية لفرنسا. ولاحظ أنه، بعد ذلك، سيظهر مفهوم الانفصالية كعبارة ذات حمولة قانونية ورسمية لتوصيف حالات الانكفاء الثقافي في معازل الضواحي. وطبعا، كل هذا الطيف من المفاهيم هو تنويعة على مخاوف نظرية الاستبدال العظيم Le grand remplacement التي تختلج في الأذهان دون أن تظهر دائما بشكل صريح للعيان. إن هذا الوثوق في كون الخطر الجهادي وارد على الجمهورية وأن الأمر لا يتعلق بتلك الدودة الأصيلة في تفاحة خطيئة المركزية المتعالية والتاريخ الاستعماري le ver est dans la pomme حسب العبارة الفرنسية الشهيرة هو، في رأيي، ما يشكل النقاش العميق حول مفارقات العقل الجمهوري وجراحه وهلوساته.
وكثيرا ما يتناسى الفرنسيون مثلا وأوروبا بصفة عامة أن التقاليد الإرهابية هي اختراع فرنسي أوروبي؛ فالحكم بالترهيب كان تقليدا لحكومة الثورة ضد أعدائها، كما أن طرائق الترهيب من قبيل التفجيرات والاغتيالات وخطف الرهائن هي أيضا ممارسات أُسست أيديولوجيا في الغرب.
وهذا النموذج الفرنسي هو ما تم نقله إلى روسيا القيصرية وغيرها، فنشأ عن عملياتها الإرهابية ما نتج من كوارث وجراح لا تزال تعتمل في الوجدان العالمي. لا يعني هذا شيطنة الجمهورية؛ لكن فقط التنبيه إلى أنه لا أحد ضحية بإطلاق ولا جلاد بشكل خالص، وأن هناك داخل جسم الإرهاب والتطرف المظلم واللقيط الكثير من الملامح التي أتت من ثقافات وفلسفات مختلفة. ولهذا، من الصعب لأي طرف أن يتبرأ بشكل كامل من هذه التشوهات البشرية التي تطالعنا بها العمليات الإجرامية العنيفة ضد الأبرياء.
حتى نتبين مدى المسبقات التي تتحكم في رؤيتنا للحركة الجهادية وخطرها، لا بأس أن نستحضر التمييز ما بين خطر الداعشي أو القاعدي ذي الأصول الفرنسية، الذي يحمل معه كل هلوسات التقاليد الإرهابية للقرن التاسع عشر التي انتهت إليه من تعاطي الحركات الفدائية سنوات الستينيات والسبعينيات، والتي سيرثها الجهاد الإسلامي المعولم مع الثورة الإيرانية التي كما نعلم نزلت إلى الشارع جنبا إلى جنب مع الأحزاب اليسارية الإيرانية؛ وعلى رأسها الحزب الشيوعي قبل أن تنقلب عليه وتقوم بتصفية كوادره وأسلمة وتشييع شعارات الثورة التي عرفت بالمناسبة احتفاء كبيرا من طرف ميشيل فوكو حينما قدم خمسة تقارير من إيران نفسها مشيدا بعودة الروح مرة أخرى إلى مفهوم الثورة، مقارنة بالجهادي الطالباني المرتبط أكثر بأعراف الباتشون والي patchoun wali الذي يمثل ميثاق ثقافته وأعرافه القبلية والوطنية الضاربة في القدم والتي تنتظم له مجاله الترابي بشكل دقيق،بحيث لا يتجاوز حدوده العشائرية إلا تحت ضمانات ودواعٍ كبرى. ولهذا، فإن هذا الأخير هو أقل خطورة من الجهادي الأول.
هو يربط صراعه مع الغرب بجغرافية أفغانستان، بينما الجهادي المتشرب للراديكالية الغربية سواء في صورتها اليسارية الأممية، أو في رد فعلها المحاكي لخيالات الحرب الصليبية والدفاع عن العقيدة الصحيحة ودين الخلاص وغيرها من المقدمات الحاضرة لدى كل اليمنيين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، تراه يعلن حربا كونية شاملة.. لا ننسى أن مفهوم الحرب العالمية هو تقليد أوروبي خالص، مثلما أن الخلافة في صورتها الإمبراطورية هي ميراث بيزنطي انتهى إلى الأمويين في سياقهم الشامي؛ وهو ما لم يكن معروفا ولا مطلوبا في سياق إسلام الجزيرة العربية.
ولأوليفي روا كتاب آخر بالغ الأهمية يسمح لنا بأن نعيد التفكير في مسبقاتنا حول أوروبا عامة، وفرنسا تحديدا يحمل عنوانا كشفيا مهما “هل أرووبا مسيحية؟” L’Europe est-elle chrétienne. هذان النموذجان هما فقط ما يحضرني من كل أولئك الذين يخضعون الثقافة الفرنسية إلى محك نقد صريح وقاس. وأعتقد أن تحفظاتهما حول الكثير من المواقف الأبوية لفرنسا حيال المستعمرات القديمة والمهاجرين، يمكنها أن تكون أرضية نقاش أكثر عمقا من ردود الفعل المتشنجة التكفيرية أو تلك التي تفتح مظلاتها كلما أمطرت داخل بلاتوهات القنوات الفرنسية أو دورِ نشرها.
بالنظر إلى كل ما يجري في الجمهورية، وهو ما عرضت له في هذا الحوار، هل الخلاصة التي نتوصل إليها هي أن فرنسا “تعيش شروخا عميقة في هويتها”؟
هذا واضح. ونحن لسنا ملزمين بأن نحمل معها هذه الشروخ التي تهم “إرثها المشترك” كما قال رينان، إنهم يحملون في ذاكرتهم جرح قتل الملك، الذي يحاولون تعويضه بالكثير من التفاهم الجمهوري، والذي يجعلهم ينظرون من حيث المبدأ إلى كل ملكية باعتبارها مشبوهة إلى أن تثبت العكس، هذا مثلا ما لم يقع فيه البريطانيون في ثورتهم المجيدة، وهذا ما لم تعشه الديمقراطيات الملكية الضاربة في القدم داخل أوروبا، والتي تبدو أكثر قدرة على استيعاب الآخر من ورثة نابوليون في الثقافة الفرنسية. ولهذا، فإن كل أولئك الذين يتصرفون داخل سياقنا كما لو أنهم أبناء الثورة الفرنسية عليهم أن يستحضروا في أذهانهم أن ما يلزم الآخرين لا يلزمنا بالضرورة، وليس مطلوبا منا أن نعلن جنائز وهمية لا تخصنا، وإن افتعال الحس الجمهوري كلما فتح الملف الحقوقي هو أحد الأعراض المرضية للفرونكفونية الرديئة التي للأسف كثيرا ما تسود في أوساطنا الثقافية.
هناك جرح آخر، وهو نتاج للخصوصية الفرنسية؛ يتمثل في طبيعة الصراع والانفصال العسير ما بين الدولة والكنيسة، والذي يتجلى في ذلك التخوف شبه المرضي من السلط الدينية؛ العلمانية الفرنسية كثيرا ما تأخذ صورة هوس هذياني حيال العلامات الدينية حفاظا على نوع من الطهرانية العلمانية.. أتفهم كثيرا الخصوصية الجمهورية لفرنسا؛ لكني مع ذلك لا أستطيع دائما أن أستوعب السياسة التدخلية للدولة لأجل تصفية كل ما من شأنه أن يعبر عن القناعات الدينية. كلنا يستحضر مسألة الحجاب والنقاب وكل الضجيج الذي صاحبها، وها قد أصدرت مؤخرا الجامعة الفرنسية لكرة القدم بيانا تمنع فيه لاعبي كرة القدم من لبس تلك السراويل الضيقة تحت “الشورط” إلا لضرورة طبية. هنا، في الواقع نكاد نصل إلى أجواء الكوميديا السوداء. إن عادة تصور الإكليريوس والأرستقراطية والملك كسلط استحواذية لا تزال مستحكمة في الرؤية الفرنسية، وهذا ما يفسر الكثير من مواقفها وعوائدها اللغوية إزاء المسألة الدينية والتنظيمات الملكية.
تعتبر أن التضحية بالثقافة التقليدية القروية لفرنسا كانت أيضا ضمن الهزات التي عرفها الوعي الفرنسي، كيف يمكن أن نستحضرها؟
أتصور أنه من الضروري أن نستحضرها حتى لا ننسى أن الثورة الفرنسية هي قبل كل شيء ثورة مدن؛ بل إن القرى مثلت خزانا لأعداء الثورة في ما يشتهر في تاريخ الثورة الفرنسية بالخوف الكبير Grande Frayeur حيث عاش الفلاحون مخاضا مختلفا لولادة الوضع الجمهوري، وهو خليط ما بين الوفاء والحنين إلى الطابع الأبوي الفيودالي والكاثوليكي، وما بين الفوضى الدموية التي جعلت الثوري يأخذ أحيانا صورة قاطع الطريق.
المشكل أن هذا المخاض تمت إدارته حسب مركزية السلطة الجديدة التي تشكلت في عمق المدن، وليس الضواحي القروية. ولهذا، فإن إدماج الفرنسي القروي في الجسم الجمهوري أخذ طابعا قاسيا. لقد كان عليه أن ينفصل بشكل مؤلم عن امتداداته الثقافية والعقائدية بل واللغوية.
لنستحضر مشاعر احتجاجات المزارعين مؤخرا بفرنسا وحدة شعاراتها بل وتميزها عن حركة السترات الصفراء، في مقابل ترسيخ المركزية الباريسية parisianisme التي استحوذت على كل شيء: اللغة والثقافة والسلطة والقرار.
هذه النزعة الباريسية لا تزال تمثل مشكلا حتى داخل الأوساط الثقافية في فرنسا إلى وقتنا الراهن. ولقد كان جورج غوسدورف أحد نقادها الكبار، ومن تابع تأثيرها ليس فقط مستوى التقاليد الجامعية؛ بل أيضا على المستوى المعرفي والمنهجي والفكري. لقد أظهر هذا الفيلسوف الموسوعي، الذي للأسف لا تعرفه الغالبية العظمى من طلبتنا؛ وهو صاحب العمل النقدي العميق في خمسة مجلدات ضخام تحت عنوان العلوم الإنسانية والفكر الغربي Les sciences humaines et la pensée occidentale، وعلى الخصوص في المقدمة اللاحقة لكتابه الفريد “الأسطورة والميتافزيقا” كيف مارس مجموعة من فلاسفة السوربون نوعا من الوصاية المتعالية باسم قيم الجمهورية على المسار المعرفي الفرنسي على الخصوص من لدن من يدعوهم بالثالوث العلماني الجمهوري الديمقراطي إميل بريهي وبرنشفيك ولالاند.
هؤلاء من المؤكد أن الجميع يعرفهم، لأن المدرسة العمومية ومن ثمة الجامعة لا تمرر لنا إلا أبناءها الأبرار، هؤلاء كانوا يمثلون نموذج الفكر الفرنسي الذي يوزع هباته المدنية عبر عالم البدائيين، على خلاف البسطاء الذين شكلوا تقليدا قرويا للأسف لم يملك السلطة المعرفية على المستوى الأكاديمي؛ وعلى رأسهم الساحر الزاهد غاستون باشلار الذي يتميز حسب غوسدورف بالحكمة البدوية وتواضعها une sagacité paysanne؛ كل هؤلاء نمطوا الفكر الفرنسي وجعلوه مركزيا باريسيا على غرار الروح النابولونية التي رأينا أنها لا تزال طاغية على العقل الجمهوري الفرنسي ذي التطلعات الخلاصية.
في كل الأحوال، أعتقد أن هذه الجراح الثلاثة أو الانكسارات خلقت مزاجا فرنسيا مختلفا عن الكثير من العقليات الأوروبية؛ الأمر الذي جر فرنسا أكثر من غيرها إلى السجال الأصولي، لأن دعاة الخلاص يبحثون عن بعضهم البعض في إطار تنافس عجيب وقاتل بين “الأغيار المتشابهين” حول موضوع الرغبة المشترك حسب روني جيرار. ولا يحمل هذا الكلام أي جحود معرفي حيال وضعنا الفرنكوفوني، فقد كانت فرنسا دائما مصدرا مهما للرؤى والمعارف؛ لكن هذا لا يمنع من أن نسجل تحفظنا وتحررنا من هذه المركزية المتضخمة للعقل الجمهوري، وأن نقبل بأن تصورات العالم أكبر وأعقد من ثنائية المتحضر والهمجي التي يقع فيها غالبا بعض تبسيطي الفرنسيين.